الفصل الأول: الأراضي الفلسطينية المحتلة
مخيم عايدة
قطاع غزة
تسجِّل قوائم “منظمة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى”، المعروفة اختصاراً بالاسم “أونروا”، ما يزيد على مليوني لاجئ فلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، من بينهم قرابة 775 ألف لاجئ في الضفة الغربية، بينما يقيم 1,26 مليون لاجئ في قطاع غزة. ويعيش كثير منهم على بعد بضعة كيلومترات فقط من منازل أسرهم الأصلية داخل الأراضي التي صارت الآن إسرائيل، ومع ذلك يستمر حرمانهم من حقهم في العودة إليها.
ويقع مخيم عايدة في الضفة الغربية على بعد كيلومترين إلى الشمال من بيت لحم ويضم قرابة 3300 لاجئ فلسطيني. وهم يعيشون في مساحة لا تتجاوز 0.071 كيلومتر مربع، أو رقعة 10 من ملاعب كرة القدم تقريباً. وما زال بمقدور أبناء الجيل الأكبر سناً أن يتذكروا منازلهم الأصلية في القرى الواقعة حول القدس، والتي اضطُروا إلى مغادرتها عام 1948، خلال الحرب التي أنشأت دولة إسرائيل.
والموطن الحالي لهؤلاء اللاجئين محاط الآن من ثلاث جهات بجدار من الخرسانة ارتفاعه ثمانية أمتار وتتخلله خمسة أبراج مراقبة عسكرية إسرائيلية. ويقع على مقربة منه حاجز التفتيش الرئيسي الذي أقامته القوات الإسرائيلية بين بيت لحم والقدس. وتُرَى مستوطنتا هار حوما وجيلو الإسرائيليتان غير القانونتين بموجب القانون الدولي من أسطح المنازل داخل المخيم.
وتمنع القيود الإسرائيلية المفروضة على التنقل أغلب سكان المخيم من عبور حاجز التفتيش للخروج بحثاً عن عمل، ويستحيل عليهم، مع وجود الجدار، توسيع منازلهم. وتزداد البنايات المكتظة المتداعية في المخيم اكتظاظاً وتداعياً.
وكثيراً ما يشهد حاجز التفتيش القريب احتجاجات ومواجهات بين الجيش الإسرائيلي والشبان الفلسطينيين من أبناء المخيم. ونتيجة لذلك يتعرض سكان المخيم لمداهمات متواترة من جانب القوات الإسرائيلية التي تستخدم القوة غير الضرورية أو المفرطة، بما في ذلك استخدام الغاز المسيل للدموع والطلقات المكسوة بالمطاط بطريقة تتسم بالتهور، عند تفريق الاحتجاجات. وقد أُصِيبَ عبد الرحمن عبيد الله، الذي يبلغ عمره 13 عاماً، برصاص جندي إسرائيلي في 5 أكتوبر/تشرين الأول 2015، وهو يقف على بعد 70 متراً تقريبا من الاشتباكات بين القوات الإسرائيلية والشبان الفلسطينيين، ولم يكن آنذاك يمثل أي تهديد. وتوفي في المستشفى بعد ذلك بقليل؛ وقال الأطباء إنه قُتِلَ بطلقة خرطوش أصابته في صدره.
وفي سنة واحدة، وهي السنة ما بين يونيو/حزيران 2017 ومايو/أيار 2018، نَفَّذَ الجيش الإسرائيلي 105 عمليات عسكرية داخل المخيم، أي ما يقرب من عمليتين أسبوعياً في المتوسط. وخلال الفترة نفسها، سجل الناس في المخيم استخدام القوات الإسرائيلية للغاز المسيل للدموع 43 مرة. وأطلق الجيش الإسرائيلي الغاز المسيل للدموع في بعض الحالات بطريقة عشوائية على المخيم من وراء الجدار الخرساني. وفي حالات أخرى، أطلق الجنود عبوات الغاز المسيل للدموع بشكل مباشر على منازل السكان وغيرها من المباني مثل المساجد والمدارس. ويقول السكان إن الجنود لا يُوَجِّهُون إنذارات، وإنهم قد يطلقون عبوات الغاز المسيل للدموع في “أي لحظة”. وقد أضحى إطلاق عبوات الغاز المسيل للدموع متواتراً إلى حد لجأ معه السكان إلى تغطية ملعب كرة القدم في المخيم بشبكة لمنع دخولها.
وذكر السكان أن الجنود الإسرائيليين كانوا يطلقون الغاز المسيل للدموع على المخيم كل يوم تقريباً في الأسابيع التي أعقبت اعتراف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل في 6 ديسمبر/كانون الأول 2017، وهو أمر أصاب السكان بتوتر شديد وعطل العمل والدراسة، وغيرهما من الأنشطة.
وتوصَّل “مركز حقوق الإنسان” بجامعة كاليفورنيا، في دراسة أُجرِيت مؤخرا، إلى أن القوات الإسرائيلية تستخدم الغاز المسيل للدموع في مخيم عايدة بشكل متواصل وعشوائي وواسع النطاق. وأفاد جميع السكان الذين شملتهم الدراسة، وعددهم 236 شخصاً، بتعرضهم للغاز المسيل للدموع في عام 2017، وأفاد بعضهم بتعرضهم للغاز المسيل للدموع مرتين أو ثلاث مرات أسبوعياً على مدى فترة تزيد عن سنة. وقال كثيرون إنهم تعرضوا للغاز المسيل للدموع في المنزل أو العمل أو المدرسة وهم لا يمثلون أي تهديد. وذكروا أنهم أُصِيبُوا نتيجة لذلك بفقدان الوعي، وصعوبة التنفس، وطفح جلدي، وآلام مُبرِّحة. ووجدت الدراسة كذلك أن كثيراً من السكان يعانون من الابتئاس المرتبط بالمستويات العالية من التوتر والاكتئاب، بما في ذلك تقطع النوم، واضطراب ما بعد الصدمة المزمن. ولعل الأكثر إثارة للقلق أن السكان عبَّروا عن خوفهم الشديد مما يمكن أن يصيبهم من آثار طويلة الأمد نتيجة التعرض للمهيجات الكيماوية؛ وقد ربطوا بين حالات مزمنة مثل الربو أو الإجهاض المتكرر وبين التعرض للغاز المسيل للدموع، برغم صعوبة الحصول على أدلة تؤيد مثل هذه المزاعم حيث لا توجد بحوث بشأن الأثر الصحي الطويل الأمد للغاز المسيل للدموع. إلا إنه وفقاً للخبراء الطبيين، يزيد الانحصار في مساحة مقفلة، والاكتظاظ، والتعرض لفترات طويلة لمستويات عالية للغاية من السموم، المخاطر الصحية على من يتعرضون لهذه الظروف، وخصوصاً الأطفال والنساء الحوامل، ولاسيما من لديهن ميل طبيعي للإجهاض، والأشخاص الذين يعانون من أمراض مزمنة.
ولا يُسمَحُ باستخدام الغاز المسيل للدموع إلا بغرض تفريق الحشود؛ وينبغي ألا يُستَخدَم في أماكن مغلقة. ويجب إنذار الناس مسبقاً بأن الغاز المسيل للدموع سيُستَخدَم، ويتعين السماح لهم بالتفرق. واستخدام إسرائيل للغاز المسيل للدموع في مخيم عايدة يتسم بالتعسف ويخالف المعايير الدولية لحقوق الإنسان بشأن استخدام القوة من جانب الموظفين المكلفين بإنفاذ القانون.
يبلغ عدد سكان قطاع غزة 2 مليون نسمة، ما يقرب من 70 بالمئة منهم مسجلون كلاجئين فلسطينيين من المناطق التي تقوم فيها الآن إسرائيل. وقد عانوا على مدى اثني عشر عاماً الأخيرة من النتائج المدمرة للحصار الإسرائيلي الجوي والبحري والبري غير القانوني، بالإضافة إلى ثلاث حروب أنزلت خسائر جسيمة بالبنية الأساسية الضرورية، وزادت تداعي النظام الصحي والاقتصادي في غزة. ونتيجة لذلك انكمش اقتصاد قطاع غزة بشكل حاد، وهو ما جعل السكان يعتمدون اعتماداً شبه تام على المعونات الدولية. وصار معدل البطالة في غزة الآن من بين أعلى المعدلات في العالم، إذ قُدِّرَ بنحو 44 بالمئة.
وما زال زهاء 22 ألف شخص نازحين داخلياً، برغم مرور أربع سنوات على صراع عام 2014، ويعاني الآلاف من مشاكل صحية كبيرة تتطلب علاجاً طبياً عاجلاً خارج قطاع غزة. ومع ذلك، فغالباً ما تمتنع إسرائيل عن إصدار التصاريح أو تؤخرها لمن يطلبون الرعاية الطبية الحيوية خارج غزة، بينما تفتقر المستشفيات داخل القطاع إلى الموارد الكافية، وتعاني نقصاً مزمناً في الوقود والكهرباء والإمدادات الطبية، فيما يرجع أساساً إلى الحصار الإسرائيلي غير القانوني. وقد أصبح الوضع في قطاع غزة سيئا جدا إلى حد أن الأمم المتحدة حذَّرت في عام 2015 من أن القطاع سيصبح “غير صالح للسكن” بحلول عام 2020.
وتسيطر إسرائيل بصفتها دولة الاحتلال على جميع منافذ غزة، باستثناء معبر رفح على الحدود مع مصر. وتمارس إسرائيل سيطرة مستمرة على سجل السكان الفلسطيني، ولذلك تتطلب جميع وثائق تحقيق الشخصية، بما في ذلك جوازات السفر، موافقة إسرائيلية. ونتيجة لذلك يخضع انتقال الأشخاص والسلع لقيود مشددة، وحُظِرَت أغلبية الصادرات والواردات من المواد الخام. ويقتصر السفر من خلال معبر إريز، وهو منفذ غزة الخاص بالأفراد إلى إسرائيل والضفة الغربية وبقية العالم، بصفة أساسية على ما يسميه الجيش الإسرائيلي “الحالات الإنسانية الاستثنائية”، والتي تعني من يعانون من مشاكل صحية حادة ومرافقيهم. ومن ناحية أخرى ، تفرض مصر قيوداً مشددة على معبر رفح منذ عام 2013، حيث أبقته مغلقاً معظم هذه المدة. وتعتبر الأمم المتحدة واللجنة الدولة للصليب الأحمر وغيرهما سياسة الحصار الإسرائيلية “عقاباً جماعياً”،
ودعت إسرائيل إلى رفع الحصار.
وفي ظل هذا الوضع بدأ الفلسطينيون في غزة، بما في ذلك اللاجئون، “مسيرة العودة الكبرى” في 30 مارس/آذار 2018 في صورة سلسلة مظاهرات حاشدة على طول السياج المقام بين إسرائيل وقطاع غزة للمطالبة بحقهم في العودة إلى قراهم ومدنهم في المناطق التي تقوم عليها إسرائيل الآن، والمطالبة بوضع حد للحصار الإسرائيلي. ورَدَّ الجنود والقناصة الإسرائيليون باستخدام الذخيرة الحية والغاز المسيل للدموع فقتلوا ما يزيد عن 180 فلسطيني، من بينهم ما لا يقل عن 32 طفلاً، وأصابوا آلافاً غيرهم بجروح بعضها، فيما يبدو، إصابات متعمدة تُغَيِّرُ حياة المصاب. وفي كثير من حالات الإصابات المميتة التي سجلتها منظمة العفو الدولية منذ بدأت الاحتجاجات في 30 مارس/آذار، أُصِيبَ الضحايا بطلقات الذخيرة الحية في الجزء العلوي من أجسادهم، وبعضهم من الخلف. وتشير إفادات شهود العيان والأدلة المستقاة من تسجيلات الفيديو والصور الثابتة إلى أن كثيراً منهم قُتِلُوا عمداً وهم لا يمثلون تهديداً مباشراً للجنود الذين قتلوهم. وكان بين القتلى على الاقل صحفيان و ثلاثة من العاملين الصحيين، وأُصِيبَ كثير غير هؤلاء.
ووفقاًعلى النتائج التي توصل إليها تقرير نشرته لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة، أُصِيبَ ما يزيد عن 6000 شخصاً بطلقات الذخيرة الحية في الفترة ما بين 30 مارس/آذار و31 ديسمبر/كانون الأول 2018، بينما عانى قرابة الآلاف شخصاً من استنشاق الغاز المسيل للدموع. وأفاد كثيرون بإصابتهم بالإغماء والدوار والصداع، واستمر ذلك في بعض الحالات أياماً بعد استنشاق الغاز المسيل للدموع.
ووصلت الاحتجاجات إلى ذروتها يوم 14 مايو/أيار، وهو يوم نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وعشية الذكرى السبعين للنكبة. وفي ذلك اليوم وحده، قتلت القوات الإسرائيلية 59 فلسطينيا،ً في مثال مروع لاستخدام القوة المفرطة والذخيرة الحية ضد محتجين لا يمثلون أي تهديد وشيك للجنود الإسرائيليين، الذين كانوا يربضون خلف السياج وتحميهم الدروع الواقية والتلال الرملية والطائرات التي تعمل بلا طيار والمركبات العسكرية.